في قلب الجزيرة العربية، حيث تتنفس الأرض تاريخًا وتتحدث الرمال أمجادًا، تقف قبيلة عتيبة شامخة كالجبال، حافظةً لعهود الأجداد، حاملةً راية العروبة الأصيلة. ومن بين جذميها العتيدين، برقا وروق، تنبثق فروعٌ وأفخاذٌ تشكل نسيجًا اجتماعيًا وثقافيًا فريدًا. وفي هذا السياق، تأتي أفخاذ الروقة لتشغل مكانة محورية في بنية قبيلة عتيبة، فهي ليست مجرد تفرعات قبلية، بل هي حكايات متوارثة، ودماء متدفقة، وروابط قوية تجسد مفهوم العشيرة بكل أبعاده. يهدف هذا البحث الموسع إلى الغوص في أعماق شجرة أفخاذ الروقة، تفصيلاً وتوثيقًا، ليكشف النقاب عن أصولها، تفرعاتها، مشيختها، ودورها في نسيج المجتمع السعودي عبر العصور، مع التركيز على خصوصيتها وعراقتها.
القبيلة الأم: عتيبة.. حيث تلتقي الأصول والجذور
لا يمكن الحديث عن أفخاذ الروقة بمعزل عن جذعها الأصلي، قبيلة عتيبة العريقة. تستقر هذه القبيلة الكبرى بشكل رئيسي في المملكة العربية السعودية، وخاصة في منطقة نجد التاريخية التي شكلت مهدًا للعديد من القبائل العربية، بالإضافة إلى أجزاء واسعة من مناطق الحجاز. تعود أصول عتيبة في النسب إلى القبائل العدنانية، مما يؤكد عراقتها وانتسابها إلى عدنان بن أدد، الجد الأعلى للعدنانيين من العرب المستعربة. وقد اختلف النسابون في تحديد النسب الدقيق، لكن الروايات الأكثر تواترًا تجمع على انتمائها إلى هوازن، وتحديدًا إلى بني سعد بن بكر بن هوازن، تلك القبيلة المشهورة التي ارتبط اسمها بحضانة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في طفولته. كما تذكر مصادر أخرى مثل “جمهرة النسب” لمحمد بن السائب الكلبي، اسم “عتيبة بن غزية بن معاوية بن بكر بن هوازن”. وتؤكد المصادر التاريخية، كـ “الطبقات الكبرى” لابن سعد، وجود اسم “عتيبة” في سياق زواج معاذ بن عبدالرحمن التيمي من زيينة بنت عتيبة من بني سعد بن بكر بن هوازن، مما يعزز هذا النسب. وهكذا، فإن أفخاذ الروقة تحمل في عروقها هذا الدم العدناني الهوازني العريق.
العتبان برقا وروق
تنقسم قبيلة عتيبة إلى جذمين كبيرين أساسيين، يشكلان العمود الفقري للقبيلة ويمثلان التقسيم النسبي الرئيسي:
- جذم برقا: ويسكنون بشكل رئيسي في شمال نجد وشرقها.
- جذم روق (أو الروق): ويسكنون في جنوب نجد وغربها (الحجاز) بشكل أساسي.
ومن هذا الجذم الأخير، روق، تنحدر الروقة كأحد البطون الكبرى والأكثر شهرة وتأثيرًا. ومن بطن الروقة هذا، تتفرع بدورها أفخاذ الروقة العديدة، التي سيكون محور حديثنا التفصيلي. أي أن المسار النسبي يكون: عتيبة > جذم روق > بطن الروقة > ثم الأفخاذ المتعددة التي سنستعرضها. وهذا التقسيم ليس اعتباطيًا، بل يعكس تحالفات تاريخية وروابط نسبية عميقة الجذور.
أفخاذ الروقة: المزاحمة والطلوح.. عماد البنية القبلية
تنقسم أفخاذ الروقة إلى قسمين رئيسيين كبيرين، يشكل كل منهما عالمًا قبليًا متكاملاً بذاته، ولكنه جزء لا يتجزأ من كيان الروقة الكبير:
- المزاحمة: العمود الأول لأفخاذ الروقة
يمثل المزاحمة الفخذ الأول والأكبر من أفخاذ الروقة، والنسبة إليهم هي مزحمي. وهم مجموعة كبيرة من الفروع والفخوذ المتشعبة التي تعتز جميعًا بنسبتها إلى جدهم الجامع مزحم بن شهيب بن حجاج بن صرير بن ثابت بن سعد بن بكر. ويضم المزاحمة ستة عشر فخذاً رئيسياً، يمكن تصنيف بعضها في مجموعات مترابطة نسبيًا:- المجموعة الأولى (ذوي عطاالله): وتضم ثلاثة أفخاذ كبار يلتقون في الجد الحادي عشر ويلقبون أحيانًا بـ “اليد” على بقية المزاحمة:
- العضيان: النسبة (عُضياني)، نسبة إلى عُضي بن غصاب بن عطاالله بن منصور بن مزحم.
- الغبيات: النسبة (غُبيوي)، نسبة إلى غابي بن عمر بن عطاالله بن منصور بن مزحم.
- المراشدة: النسبة (مرشدي)، نسبة إلى مرشد بن عطاالله بن منصور بن مزحم. وهؤلاء الثلاثة يشكلون كتلة نسبية متقاربة.
- المجموعة الثانية (ذوي عطية): وتضم تسعة أفخاذ يلتقون في عطية بن منصور بن مزحم، ويشكلون معًا كتلة كبيرة، رغم أن لكل فخذ مشيخته الخاصة:
- المغايرة: النسبة (مغيري)، أبناء مسفر بن حمود بن عطية بن منصور بن مزحم. ومنهم ذوي يعيش والعجارات، وشيوخهم معروفون (ابن حمد لذوي يعيش، وابن عميرة سابقًا للعجارات).
- السلسة: النسبة (سُليس)، أبناء سفر بن حمود بن عطية بن منصور بن مزحم.
- الخراريص (الخراص): النسبة (خريص)، أبناء زويد (الملقب بالخراص) بن محمد بن عطية بن منصور بن مزحم. ويروى أن سبب التسمية يعود لتوليه خرص النخل للشريف الزيدي.
- القساسمة: النسبة (قسامي).
- الحبردية: النسبة (حبردي)، أبناء حبرود بن حمود بن عطية بن منصور بن مزحم، وشيخهم المعروف أبو سنون.
- المهادلة: النسبة (مهيدلي)، أبناء مهيدل بن محمد بن عطية بن منصور بن مزحم، وشيخهم الشهير شليوح بن ماعز المهيدلي (العطاوي)، الفارس المعروف. وموطنهم الأساسي في سراة بني سعد، في شعيب المهادلة قرب “لغب”.
- الفراهدة: النسبة (فريهدي)، أبناء فريهيد بن محمد بن عطية بن منصور بن مزحم.
- الغنانيم: النسبة (غنامي)، وشيخهم ابن وبصان. وأصلهم يعود إلى المراوحة من اللصة من ثبيت، وانضموا لاحقًا للمزاحمة.
- الموارقة: النسبة (مورقي).
- المجموعة الثالثة (المنتسبون لثبيت):
- الثبتان: النسبة (ثبيتي)، وهم في الأصل من ثبيت (من عتيبة)، نزحوا من وادي البان قرب “لغب” في بني سعد. وينقسمون بدورهم إلى فرعين رئيسيين:
- العفارين: ومنهم الرباعين (آل ربيعان) الذين يشغلون مكانة شياخة الروقة. ومن أشهر شيوخهم في العصر الحديث الشيخ عبدالله بن عمر بن عبدالرحمن بن تركي بن سلطان بن محمد بن حمود بن محصن بن مسلم بن ربيعان. ومن العفارين أيضًا: الفرزان، الشقران (الاشقر)، الحيصة (الحيص). وهم مرتبطون بفخذ اللصة.
- الحبصان: ومنهم: البراريق (البراق) (لهم بقية في السراة)، العردة (عريدي)، الجملا، الحمران، وقوم ابن جاسر أهل الداهنة بالوشم. وهم مرتبطون بفخذ الصريرات. وسموا “الثبتان” لانتمائهم الأصلي لثبيت.
- الثبتان: النسبة (ثبيتي)، وهم في الأصل من ثبيت (من عتيبة)، نزحوا من وادي البان قرب “لغب” في بني سعد. وينقسمون بدورهم إلى فرعين رئيسيين:
- المجموعة الرابعة (ذوي ناصر):
- السياحين: النسبة (سيحاني)، أبناء سيحان بن ناصر بن مزحم.
- الجذعان: النسبة (جذع)، وشيخهم ابن زريبة.
- ذوي عالي (العوالي): النسبة (عالي)، أبناء عالي بن ناصر بن مزحم، وشيخهم الزلامي، ولهم مشيخة قديمة.
- المجموعة الأولى (ذوي عطاالله): وتضم ثلاثة أفخاذ كبار يلتقون في الجد الحادي عشر ويلقبون أحيانًا بـ “اليد” على بقية المزاحمة:
- الطلوح: العمود الثاني لأفخاذ الروقة
يمثل الطلوح القسم الثاني الرئيسي من أفخاذ الروقة، ويضمون أربعة عشر فخذاً. وهم أبناء طلحة بن روق (جد الروقة). ومن بينهم مجموعة تعتز بـ “أولاد الخشيمي”. وأفخاذ الطلوح هي:- الذيبة: النسبة (ذيابي)، وشيخهم ابن سويلم.
- العوازم: النسبة (عازمي)، أبناء عاصي بن بريك بن قويع بن عازم بن عطا. والأصل أنهم من قبيلة العوازم المستقلة (آل عطا)، وانضموا لاحقًا لطلحة الروقة.
- الكراشمة: النسبة (كرشمي)، وأغلب تواجدهم في منطقة الحجاز.
- الحفاة: النسبة (حافي)، وشيخهم الحالي التوم (وكان في السابق ابن طويق). ولهم تاريخ ممتد ووجود في مناطق متفرقة:
- بقية في سراة بني سعد.
- حمايل معروفة في نابلس وبرقة بفلسطين (مثل آل أبي عمر، آل الحاج، البرقاوي – نسبة لبرقة الفلسطينية وليس لبرقا). وقد ذكرهم “معجم قبائل العرب” كعشيرة من عتيبة في وادي الشعير بفلسطين، وتفرعوا هناك إلى صلاح وأبي عمر والحاج وغلس.
- في نجد: التومان (شيوخهم)، ولهم صلة بحفاة فلسطين (آل التوم). ومنهم أيضًا الرقاقصة (في أرطاوي الرقاص)، الجحفان، ذوي ربعي، ذوي صقر.
- الجلابحة (أو الدلابحة): النسبة (جلابحي أو دلبحي).
- السمرة: النسبة (سميري)، وشيخهم ابن زيد.
- الحناتيش: النسبة (حنتوشي)، وشيخهم ابن محيا.
- الحماميد: النسبة (حمادي).
- الغربية: النسبة (غربي).
- المغايبة: النسبة (مغيبي)، كانوا في الأصل مع الحناتيش ثم انفصلوا عنهم.
- الحزمان: النسبة (حزيمي)، وشيخهم ابن رازان. وهم مع الغضابين يشكلون مجموعة “أولاد الخشيمي”.
- الغضابين: النسبة (غضباني)، وهم مع الحزمان يشكلون مجموعة “أولاد الخشيمي”.
- ذوي زراق (الزراريق): النسبة (زراقي)، وكل تواجدهم في الحجاز وليس في نجد منهم أحد.
- الأساعدة: النسبة (اسعدي)، ولهم تاريخ هجرة مميز:
- كانوا في الأصل في وادي رهاط شمال شرقي مكة المكرمة.
- انتقلوا إلى كشب.
- دخلوا نجد في أواخر القرن الحادي عشر الهجري (حوالي 1090 هـ).
- استقروا في الزلفي عام 1098 هـ، ونزلوا أيضًا قارة الشنور قرب بقعا شرق حائل.
- تفرقوا بعد ذلك إلى ثلاث فرق:
- فرقة اتجهت صوب العراق (وهم الأكثر عددًا) واستقرت قرب البصرة.
- فرقة بقيت في بقعا.
- فرقة نزلت الأسياح ثم إلى الزلفي (حيث تحضروا عام 1098 هـ بعد آل محدث من تميم). وسكن بعضهم بريدة وغيرها من مدن نجد. ومن أشهر حمايلهم المتحضرة آل الأطرم (ومنهم الشيخ صالح بن عبدالرحمن الأطرم)، آل بداح، آل ثنيان، آل فوزان.
- أما الاساعدة البدو (الذين بقوا في رهاط وكشب حتى خروج عتيبة الأخير إلى نجد)، فهم اليوم في هجرة مغيب شمال الدوادمي، وأميرهم الحديري. ولهم وجود أيضًا مع قبيلة الظفير (عشيرة المسامير).
أفخاذ الروقة: أكثر من مجرد أسماء.. إرث متجدد
لا يمكن اختزال الحديث عن أفخاذ الروقة في مجرد سرد لأسماء الفخوذ وتفرعاتها. فهذه الأفخاذ تمثل:
- وحدة اجتماعية واقتصادية: شكلت الفخاذ وحدة متكاملة في حياة البادية، تتعاون في الرعي، حماية المراعي، حل النزاعات، وإدارة شؤونها الداخلية تحت قيادة شيخ الفخذ.
- هوية وانتماء: النسبة إلى الفخذ (مزحمي، ذيابي، حبردي، إلخ) كانت ولا تزال مصدر فخر وعلامة هوية قوية لأفرادها، تحدد انتماءهم الدقيق داخل الكيان الكبير لقبيلة عتيبة والروقة.
- حفظ التاريخ والأنساب: كان شيوخ وعلماء كل فخذ هم حافظو أنسابهم، ناقلون لحكايات الجدود وأيام العرب وأشعارهم، مما حفظ تراثًا شفهيًا غنيًا عبر الأجيال.
- دور في بناء المجتمع السعودي: ساهمت هذه الأفخاذ، سواءً في باديتها أو حاضريتها، في تشكيل المجتمع السعودي الحديث. فمنهم الرعاة، المزارعون، التجار، رجال الدولة، العلماء، والجنود الذين دافعوا عن أرض الوطن. ولا يزال أبناء هذه الأفخاذ يشغلون مواقع مهمة في مختلف المجالات.
- امتداد جغرافي: كما رأينا، فإن انتشار أفخاذ الروقة ليس محصورًا على منطقة واحدة. فمن نجد إلى الحجاز، ومن السراة إلى فلسطين سابقًا والعراق، يمتد تواجدهم، مما يعكس حركة التاريخ والهجرات والتحالفات القبلية عبر القرون.
الخاتمة: جذور راسخة وفروع ممتدة
تمثل أفخاذ الروقة، بفرعيها الكبيرين المزاحمة والطلوح، نموذجًا حيًا لتشعب الأنساب وثراء البنية الاجتماعية لقبيلة عتيبة العظيمة. فهي ليست أسماء مجردة على ورق، بل هي عائلات مترابطة بروابط الدم والنسب والتاريخ، حملت إرثًا ثقافيًا واجتماعيًا غنيًا عبر القرون. من العضيان والغبيات والمراشدة في المزاحمة، إلى الذيبة والعوازم والحفاة في الطلوح، مرورًا بالعفارين (آل ربيعان) شيوخ الروقة، والاساعدة ذوي التاريخ المميز في الهجرة والاستقرار، كل فخذ من هذه أفخاذ الروقة يحمل قصته الخاصة ودوره في نسيج القبيلة والمجتمع الأوسع.
إن فهم تفاصيل هذه الأفخاذ وتفرعاتها هو فهم لجزء مهم من تاريخ نجد والحجاز، وتقدير لدور القبائل العربية الأصيلة في تشكيل هوية المملكة العربية السعودية. إنها شجرة وارفة الظلال، جذورها ضاربة في عمق التاريخ العربي، وفروعها ممتدة في حاضر الأمة وواقعها، تظل **